چاپ
دسته: العربية
بازدید: 1932

تقرير عن الندوة الثانية حول الفلسفة السياسية المتعالية بحضور آية الله جوادي آملي
اولئك الذين استلهموا من معين الحكمة المتعالية، قدّموا فقهاً متجدّداً وحيّاً حين تعاطوا مع علم الأصول. إنّنا اليوم نعتقد بأن لا حلّ لمسألة بطلان الصلاة في الدار المغصوبة. لا شكّ إنّ المصلّي يرتكب معصية في المكان المغصوب، لكن صلاته في ذات الوقت صحيحة لأنّ الغصب والصلاة غير متساوقتان. إنّ الفقهاء الذين يفتون ببطلان الصلاة، بالقطع هم يقولون باجتماع الأمر والنهي، ويعتقدون بأنّ الغصب والصلاة متساويتان لا متساوقتان، ولكن مقصدهم ليس واحداً، فمن ناحية الصلاة في هذه الحالة هي عبادة وواجبة، ومن الناحية الثانية ارتكاب لعمل الغصب وهو معصية ومحرّم. فلا تساوق بينهما أبداً.

 

_______________________________

تواصلاً مع الندوات الخاصة بموضوع الفلسفة السياسية المتعالية، فيما يلي نعرض للقارئ الكريم تقريراً مفصلاً عن الندوة الثانية بحضور الشيخ آية الله جوادي آملي حول تبيين الوجوه السياسية للحكمة المتعالية. عقدت هذه الندوة بتاريخ 5/11/2007 في مكتب سماحته بقم وبحضور عدد من الباحثين في مجال الفكر والفلسفة السياسية. سيصدر النصّ الكامل لهذه الندوة لاحقاً ضمن سلسلة المقالات والندوات الخاصة بالجوانب السياسية للحكمة المتعالية بإشراف الشيخ شريف لكزائي من معهد العلوم السياسية التابع لأكاديمية العلوم والثقافة الإسلامية.
بالنسبة لبحوث الحكمة النظرية التي تدور حول محور الأمور الحقيقية، يجب توضيح أولاً مقاربة الحكمة العملية أو طبيعة السياسة في الحكمة المتعالية. لمّا كان مبحث السياسة والحكمة المتعالية ينبثق من مفهوم الاعتبار من جهة ومن مفهوم الحقيقة من جهة أخرى، فكيف استطاعت الحكمة المتعالية إذن أن تقيم جسراً مع السياسة، وفي الجانب الآخر كيف نفذت السياسة إلى بنية الحكمة المتعالية؟ يعبّر هذا التحدّي عن نفسه عبر طريقين: الأول، أنّ الاعتبار هو الساقي للسياسة، وأنّ الحقيقة هي بداية الحكمة المتعالية وشروعها؛ وعلى هذا هناك مسافة شاسعة بين الاثنين، لذا فلا السياسة في مدار الاعتبار، ولا الحكمة المتعالية تستطيع أن تقود السياسة. بعبارة أخرى، لا الحكمة المتعالية متوليّة السياسة، ولا السياسة متولية الحكمة المتعالية. أمّا التحدّي الثاني فهو أنّ السياسة عبارة عن تدبير شؤون الأمة والمجتمع والبلاد ...، وكلّ هذه أمور اعتبارية، بمعنى لا يستطيع أيّاً منها أن يلج دائرة الحقيقة، كما أنّ الحكمة المتعالية لا يمكنها مغادرة دائرة الحقيقة.
إنّ القائمين على الحكمة المتعالية كانوا مطّلعين على هذه التحديات أكثر من غيرهم، فنحن نجد في معظم بحوث ودراسات العظماء لا سيّما صدر الدين الشيرازي موضوعات في باب النبوة والشريعة والسياسة. هم أنفسهم كانوا يعلّمون الآخرين بأنّ ثمّة فرق بين الحقيقة والاعتبار. بحسب رأيهم إنّ الحكمة العملية والسياسة وإدارة البلاد تندرج في جملة الأمور الاعتبارية. كان بإمكان هؤلاء العظماء أن يفردوا رسائل أو كتباً خاصة يتناولون فيها بصورة مستقلة هذه الموضوعات، إلاّ أنّهم لم يفعلوا ذلك.
كان بإمكان المرحوم صدر الدين الشيرازي أن يتناول في رسالة خاصة موضوع السياسة، لكنّه ارتأى أن يضمّن كتبه هذا الموضوع، لماذا؟ هل كان هدفه أن يجمع هذه الموضوعات في كتاب واحد ليكون حصيلة ذلك كشكول جامع؟ أم أنّه كان يقصد أن يبيّن بأنّ السياسة جزء من الحكمة المتعالية وأنّ الحكمة المتعالية بدورها حاضنة للسياسة؟ هذه الاستنتاجات تدفع بالمرء إلى أن يركّز اهتمامه ويمعن نظره في أسس الحكمة المتعالية ومستلزماتها ومتعلقاتها.
حينما نواجه هذه القضايا في نهاية «شواهد الربوبية»، نحتاج إلى قراءة الحكمة المتعالية بعين جديدة، لننهل من تعاليمها لنعثر بالتالي على أجوبة مقنعة لأسئلتنا. لقد قال هؤلاء العظماء بأنّ السياسة جزء من الحكمة العملية والاعتبارية، وقد أكّدوا في باب السياسة بأنّ المجتمع والدولة أمور اعتبارية. لقد بحثوا في شؤون إدارة المجتمع، وأصرّوا على أن تكون هذه الموضوعات ضمن هذا الكتاب لا رسالة مستقلة. لذا، فإنّ التمعّن في هذه النقطة، تحفّز الباحث في الحكمة المتعالية لكي يراجع الحكمة المتعالية مرّة أخرى، ليصل عبر الفهم الصحيح إلى الجواب الصحيح، وأن يوظّف فهمه وقراءاته هو لا قراءات الآخرين.
إنّنا نلاحظ من خلال الرجوع إلى الحكمة المتعالية بأنّ طريقة طرح البحوث النظرية تؤدّي بنا إلى الغاية. منذ البداية ولج حكماؤنا دائرة الحكمة بقلب مطمئن، حيث قسّموا الحكمة قسمين: قسم حقيقي وآخر اعتباري. إذن الحكمة هي الأصل تتفرع عنها الحكمة العملية والنظرية. فالحكمة هي علم.
فعندما يكون لدينا علم ينقسم إلى فرعين علميين، فإنّ ذلك يعني بأنّ لدينا معلوم ينقسم إلى معلومين. الحكمة معرفة معروفة، وهي إمّا أن تكون حقيقية أو اعتبارية. وعندما يكون هذا المعروف والمعلوم حقيقي أو اعتباري، فإنّ العلم أيضاً إمّا أن يكون نزّاع للحقيقة أو للاعتبار. على هذا الأساس، فإنّ الحكمة النظرية هي علم نزاع للحقيقة، والحكمة العملية علم نزاع للاعتبار. كلّ قضية من هذه القضايا لها إطارها الخاص بها. لذا، يمكن في هذه الحالة أن تسود الواحدة على الأخرى، أو تنضوي تحت لوائها، فهي ليست غريبة عن بعضها، هذا الكلام قد قاله المرحوم ابن سينا وسائر الحكماء قبل صدر الدين الشيرازي، إلاّ إنّ التفصيل والوضوح الذي تنطوي عليهما الحكمة المتعالية لم يكن مسبوقاً.
لقد قام فلاسفتنا بتعريف الحكمة المتعالية من خلال عناصرها الذاتية، وعلاوة على ذلك قاموا بتبيين من ذلك أيضاً. فمن وجهة نظر فيلسوفنا أنّ الحكمة هي المعرفة من أجل التشبّه بالله تعالى أو التخلّق بأخلاقه. لذا فإنّ مسألة التشبّه التي تشتمل على التخلّق واستخلاف الله تقع تمثل قلب الهدف وغايته. وعليه فإنّه عندما يكون الأمر متعلّقاً بالعلم، فإنّ مجرّد العلم يجعل من الإنسان عليماً، في حين أنّ التشبّه بالخالق الرحيم العطوف المحسن العادل العفو، هذه الصفات لن تجعل من الإنسان صاحب هذه الصفات. إنّ قسماً كبيراً من الأسماء الحسنى الواردة في دعاء الجوشن الكبير تعود إلى الأوصاف العملية للذات الإلهية المقدسة، وليس للصفات العلمية. وهذا هو معنى الحكمة، وهو أن يرى الإنسان العالم ويفهمه بشكل بحيث يكون وسيلة التشبّه بالخالق.
إذن من خلال مراجعة ثانية للحكمة المتعالية نلاحظ بأنّه قد استخدمت في تعريفها كلمات، حيث كانت السياسة أهم نقطة في الحكمة العملية، ونتبيّن بأنّ الغاية في الحكمة المتعالية ذُكِرَت بشكل بحيث لا تطرح مسألة التشبّه بالذات الإلهية المقدسة فحسب، بل التشبّه بالأخلاق والكمال الإلهيّين.
واستناداً إلى هذا المعنى الذي يبدأ مع مراجعة ثانية للحكمة المتعالية، فإنّ كلا التحديّين يرفعان لتكون الطريق معبدة. بمعنى إنّ القضايا من قبيل اعتبارية السياسة والمجتمع يتمّ حلّها لتطرح في النهاية قضية السياسة.
التحدّي الأول هو أن لا وجود لمجتمع، وذلك لأنّه على أساس الشكل الثاني للحكمة المتعالية (الوجود والعدم)، فإنّه هو متولّي الكلام حيث أنّ الوجود مساوق للوحدة لا مساوٍ لها. إنّ التركيز على دقّة المفاهيم بالنسبة للمساواة والمساوقة هو الحل للتحدّي الأول. في المساواة فإنّ اللفظ والمفهوم وحيثية الصدق متعدّدة، مثلما نقول: زيد عادل وعالم. ولكن الأمر في المساوقة ليس كذلك. هنا الألفاظ التي تحملها الألف تعني أنّها معلوم الله ومن نفس الباب فهي معلول الله ومخلوقه ومقدوره. هذه الموضوعات لم تكن في أذهان المناطقة فالحكمة المتعالية هي التي أوجدتها.
أولئك الذين استلهموا من معين الحكمة المتعالية، قدّموا فقهاً متجدّداً وحيّاً حين تعاطوا مع علم الأصول. إنّنا اليوم نعتقد بأن لا حلّ لمسألة بطلان الصلاة في الدار المغصوبة. لا شكّ إنّ المصلّي يرتكب معصية في المكان المغصوب، لكن صلاته في ذات الوقت صحيحة لأنّ الغصب والصلاة غير متساوقتان. إنّ الفقهاء الذين يفتون ببطلان الصلاة، بالقطع هم يقولون باجتماع الأمر والنهي، ويعتقدون بأنّ الغصب والصلاة متساويتان لا متساوقتان، ولكن مقصدهم ليس واحداً، فمن ناحية الصلاة في هذه الحالة هي عبادة وواجبة، ومن الناحية الثانية ارتكاب لعمل الغصب وهو معصية ومحرّم. فلا تساوق بينهما أبداً.
جاء في الحكمة المتعالية أنّ الوحدة مساوقة للوجود والوجود مساوق للوحدة، وكان التمهيد لهذا البحث الآية الكريمة نؤمن ببعض ونكفر ببعض، حيث أنّه طبقاً للحكمة المتعالية فإنّه لا وجود للمجتمع أو الأمة أو الوطن، ولكن في كثير من أقوال سيدنا الأستاذ المرحوم العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان نستنتج بأنّ هناك وجود للأمة والمجتمع. يقول صدر الدين الشيرازي في الحكمة المتعالية (الوجود مساوق للوحدة والوحدة مساوقة للوجود). ثم ينبسط البحث ليشمل الموجود وهو موضوع الفلسفة، حتى يصل تخوم الوحدة والكثرة. من منظارالشيرازي فإنّ الموجود المساوق للواحد هو نفسه الواحد المساوق للموجود.
فالوجود إمّا واحد أو كثير، إذن في هذه الحالة لدينا وحدتان: وحدة مساوقة للوجود، ووحدة تنضوي تحت لواء الوجود. فالوحدة الأولى لا يقابلها شيء، إذ إنّ مقابلها هو العدم، كما أنّ العدم مقابل الوجود، أما الوحدة الثانية، فلها مقابل. والوحدة والكثرة كلتاهما ينضويان تحت الوجود، فالموجود إمّا واحد أو كثير. إننا نجول في دائرة الحقيقة ولم نخرج منها، جميع مباحث الحكمة المتعالية الموجودة في هذه الدائرة تدور في مدار الموجودات الحقيقية، ولم يصل أيّاً منها إلى دائرة الموجود الاعتباري بما في ذلك الوجود والتشكيك بالوجود والكثرة والوحدة.
كما أن لا وجود للمجتمع خارج الحقيقة، طبعا كما أنّ الوجود حقيقة ذات مراتب، فإنّ أضعف مراتبها هي الوجود الحرفي، وهو الرابط المحض وهو ضعيف جداً، كما أنّ الكلمات ليست شبيهة ببعضها. فبعضها ضعيف وبعضها الآخر أضعف، كما أنّ الموجودات الحقيقية ليست شبيه ببعضها، ومن الممكن أن تكون أقوى من بعض الجوانب ولكن على أيّ حال، لا ينبغي أن نتوقّع أن تكون الموجودات من سنخ واحد بالاستناد إلى التشكيك.
إذن بإمكاننا القول بأنّه يوجد مجتمع، وبالنتيجة هناك قوانين، لأنّ مشكلة إدارة البلاد شبيهة بمشكلة المجتمع، وعلى هذا الأساس، لا توجد هناك كثرة، وإنّ إدارة المجتمع تختلف عن إدارة مجموعة مكونة من 1000 شخص، ليست ألف 1000 إدارة بل إدارة واحدة، وليست 1000 تدبير بل تدبير واحد.
لذا واستناداً لهذا التحليل عن الحكمة المتعالية، فإنّه من الممكن أن يبرز كلا الإشكالين. فالمجتمع والسياسة وإدارة البلاد تقع ضمن مدار الحقيقة، ولمّا كان بحثنا قد بدأ بـ(الموجود إمّا حقيقي أو اعتباري) واعتبرنا هذه المسألة تقسيم لا تشكيك، وقلنا بأنّ الموجود قسمه حقيقي والقسم الآخر اعتباري، لذا فإنّه بسبب الحقيقة والتشكيك، تكون حقيقتهما واعتباريّتهما نسبية، وإلاّ يجب أن يكون كلاهما حقيقيين، لأنّهما ينضويان تحت عنوان (الموجود) الذي هو أمر حقيقي.
إذن، يتبيّن بأنّ (الوجود الحقيقي) يتضمّن قسمين ضعيف وقويّ، القوي فيه هو الحقيقي والضعيف هو الاعتباري، لو لم تكن عبارة (الموجود إمّا حقيقي وإمّا اعتباري) صحيحة، لما كان باستطاعتنا القول إنّ (العلم إمّا حقيقي وإمّا اعتباري). وعلى هذا الأساس، تشير مباحث سيدنا الأستاذ المرحوم العلامة الطباطبائي الذي تناول في أصول الفلسفة ونهاية الحكمة الإدراكات الاعتبارية بصورة شفافة، تشير إلى أنّ الوجود الحقيقي إمّا حقيقي وإمّا اعتباري.
بعد أن رفعنا هذين التحديّين عن طريقنا، يمكننا من هذا الباب الولوج في مباحث الوجوه السياسية للحكمة المتعالية، وعلى هذا فإنّ المجتمع موجود حقيقةً والسياسة موجودة حقيقة، طبعاً دون أن نقارن السياسة والمجتمع بسائر الموجودات التي تحتوي على وجود خارجي محدّد مثل الحجر والشجر والماء والتراب، ذلك أنّ الوجود مرتبط بالتشكيك وله آثاره الخاصة به.
إنّ الحكمة المتعالية هي متعالية ومتدانية في ذات الوقت، ويمكن أن تصيّر المتدانية متعالية، وكذلك أن تصيّر المتعالية متدانية، فالحكمة المتعالية للتشبّه بالأخلاق والأسماء الحسنى الإلهية. جاء في الصحيفة السجادية نقلاً عن الإمام زين العابدين (ع) (عالٍ في دنوّه ودانٍ في علوّه). فإذا كان الله تعالى عالٍ في دنوّه ودانٍ في علوّه، وإنّ الحكمة المتعالية هي معرفته، ومعرفة أسمائه الحسنى وشريعته والرجوع إليه، إذن فهذه الحكمة يمكن أن تكون (عالية في دنوّها ودانية في علوّها)، كذلك (متعالية في تدانيها ومتدانية في تعاليها).
وأوضح مثال على ذلك في عالم الطبيعة هي الحركة الجوهرية والوصول إلى ماوراء الطبيعة وكذلك مسألة (جسمانية الحدوث وروحانية البقاء). بعض عبارات المرحوم صدر الدين الشيرازي تحتاج إلى شرح وإيضاحات، بيد أنّ سعيه كان منصبّاً على توضيح أنّ الحركة لا تنقسم إلى ثلاثة أقسام. والحركة الأصيلة والمعروفة قسم واحد فقط، وهي (الحركة من القوة إلى الفعل، وحركة من الضعف إلى الكمال)، وهذا الخروج من الضعف إلى الكمال هي الحركة الأصيلة. ليست لدينا أيّ حركة ذاتية من الأعلى إلى الأدنى، ومن المساوي إلى المساوي، كل حركة بالذات هي من النقص نحو الكمال، إذا كان الله تعالى (عالٍ في دنوّه ودانٍ في علوّه) فالحكمة المتعالية هي معرفته وأسمائه وصفاته وأفعاله ويمكن حول هذه الحكمة القول (متعالية في تدانيها ومتدانية في تعاليها). وعلامة ذلك الحركة الجوهرية من ناحية، ومن ناحية أخرى وهي أعلى وأعلم وأنفع من الحركة الجوهرية وأعني مسألة (جسمانية الحدوث وروحانية البقاء) والتي تلعب دوراً مهماً للغاية في القضايا الأخلاقية المستقبلية وكذلك القضايا السياسية.
والحقيقة إنّ مقولة (جسمانية الحدوث وروحانية البقاء) تسوق قافلة من ورائها، فالإنسان بكل ما له من صفات وأسماء فهو (جسماني الحدوث وروحاني البقاء) والعلم أيضاً يتبع هذه المقولة وكذلك العدل والكمالات الإلهية والعلمية والعملية كلّها تنقاد لهذه المقولة الواسعة. والإنسان عبارة عن قافلة يستبطن عناصر التجرّد الروحي والعلم والعدل والسمع والبصر والعدل والإحسان ... إلخ، كلّ هذه العناصر تنتقل من القوة إلى عالم المُثُل، ومن عالم المُثُل إلى عالم العقل ثم إلى التجرّد التام. هذه القافلة مستمرة في الحركة. فإذا كانت هكذا، فالسياسة كذلك يجب أن تكون كذلك أيضاً، فالسياسة تنبثق منها، إنّها حاضنة السياسة، حاضنة الأخلاق، وحاضنة الإدارة.
من المقولات الرائعة للمرحوم صدر الدين الشيرازي في (شواهد الربوبية) هي أنّ الإنسان (خليفة الله) ليس بمعنى (خليفته على الأرض). إنّه من نواحي عدّة خليفة الله: في تعليم الملائك، في خلق الجنة وتهيئتها، في تربية وتعليم الجن تحت حماية الإنسان، في تعليم بني جنسه أو سائر الأجناس وفي إعمار الأرض، الإنسان خليفة الله في إعمار الأرض. بين كلّ هذه الأبعاد وأشرفها باستثناء تعليم الملائكة، خلافة الإنسان لله في خلق وإعداد الجنة. فالجنة كذلك يجب على الإنسان أن يعمّرها. يقصر البعض دور خلافة الإنسان لله في بناء السدود والطرق، ولكن من منظار الحكمة المتعالية، فإنّ الإنسان خليفة الله في بناء السدود والطرق والجنة والغرف المبنية. جدار الجنة ينبني بأقوال وأفعال الإنسان. إذن فالإنسان خليفة الله في إعمار الجنة. يمكن من خلال هذه الرؤية إدارة المجتمع.
يجب أن ننتبه إلى أنّ المرحوم صدر الدين الشيرازي كان حامي مدرسة المتعالية وليس مؤسّسها، فقد ذكرت في أقوال ابن سينا من قبل أيضاً، أهم عامل دفع المرحوم الشيرازي من الحكمة المشائية والإشراقية إلى الحكمة المتعالية هو العرفان. عندما نتأمّل هذه المسألة نجد أنّ الأساتذة أنفسهم لم يبحثوا في هذه المسائل، حتى صدر الدين الشيرازي كان متصلباً بالنسبة (للأصالة الماهوية). لذا يجب القول بأنّ تحوّله كان بفعل العرفان وإلاّ فإنّ أساتذته في حوزة أصفهان كانوا معروفين كما أن تاريخه كان معروفاً.
نعم الفضل للعرفان في صوغ صدر الدين الشيرازي الذي نعرف، من هنا فإنّ الحكمة المتعالية ليست هي الحكمة المتعالية. فصدر الدين الشيرازي هو أحد الحكماء المتألهين المناصرين للحكمة المتعالية. الكثير ممّا موجود في الحكمة المتعالية غير موجود في فلسفة وآراء الشيرازي فهو أمّا أن تكون المنية قد عاجلته ولم يوفّ الموضوعات حقّها من الشرح والتوضيح، أو أنّه من الناحية العلمية لم يحط ببعض موضوعات الحكمة المتعالية. إذن يمكن القول بأنّه لم يتناول بعض الموضوعات بسبب الأجل، والبعض الآخر بسبب القصور العلمي. لذا يجب أن نفصل بين آراء الشيرازي وبين الحكمة المتعالية، ذلك لأنّ آفاق هذه الحكمة واسعة للغاية.